''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''''
: الإمام الخميني : قالوا عنه - الخميني العائد في طائرة «إيرباص» إلى القرن الثامن عشر

فرج بوالعشة

13/3/1426

دعوة لقراءة المقال

نسخة لطباعة المقال


الخميني العائد في طائرة «إيرباص» إلى القرن الثامن عشر


 

الخميني العائد في طائرة «إيرباص» إلى القرن الثامن عشر

 

 

 

في 1 فبراير (شباط) عام 1978، عاد الخميني إلى إيران الثورة بعد أسبوعين من هرب الشاه إلى منفاه النهائي.

مات الشاه عاش الإمام!، وانتقلت إيران من قرون الحاكمية الشاهنشاهية إلى عقود من الحاكمية الإمامية، أو جمهورية «ولاية الفقيه»!، المتكوّنة في المكوّن الايديولوجي الشيعي لمذهب الاثني عشرية الذي تبناه الشاه اسماعيل الصفوي، مؤسس الدولة الصفوية عام 1501، مذهباً رسمياً لدولته التي انهارت بعد قرنين ونيف عام 1736. توج الشاه عباس الأكبر نفسه ممثلاً للإمام الغائب (المهدي المنتظر)، وبالتالي اسبغ على نفسه وحكمه شرعية دينية «قدسية» تمتن أمنه وتطلق يده لضرب خصومه في الداخل، الذين اعتبروه طاغوتاً غير جدير بتمثيل الإمام الغائب، وتعضده في محاربة أعداء الخارج المتمثلين في العثمانيين السنّة الحاكمين في العراق. عمل الشاه عباس على ابتداع مؤسسة رجال دين (ملالي) رسمية تابعة لتوجيهاته وتعليماته واغراض سياساته، إذ أمر عام 1612 بتدريب أكثر من ألف شخص وإعدادهم كي يكونوا أداته في نشر المذهب الشيعي الرسمي، لكن ذلك لم ينهِ الصراع، بيّناً كان أو خفيّاً، بين السلطة والمعارضة الدينية التي استمرت في التكتل والتعاظم خلال العهد القاجاري والعهد البهلوي حتى توج نضالها بعودة الإمام الخميني «الغائب» من منفاه الفرنسي!. أول مصنع في إيران في بداية القرن العشرين، كان عدد سكان إيران يقدّر بنحو عشرة ملايين نسمة، ثلثاهم فلاحون وبدو رعاة. وثلثهم الباقي حضر مدن، أصحاب بازار وعسكر وموظفون وخدم وحشم وأطفال ورجال دين. لم يأت الاستعمار على إيران وبالتالي لم تدخلها مظاهر العصر الصناعي، ولم تعرف التصنيع الحديث إلا عام 1908، حين بنى أحد تجار البازار أول مصنع لإنتاج الآجر يعمل بالكهرباء التي لم يدخل منها إلى إيران إلاّ مولد كهربائي وحيد استوردته الدولة من جارتها روسيا، لا لكي تبدأ به إنارة وجودها الحديث في القرن الجديد، وإنما شغلته لإنارة ضريح الإمام الرضا.

لم تلتفت الأسرة القاجارية الحاكمة، جدياً، إلى أهمية التوسل بمعطيات العصر والأخذ بفوائده لتحديث حكمها وتمتينه وصونه إلا عندما انبهرت بما يعرضه نصارى البر البريطاني عليها من كنوز ثراء موعود كامن في باطن الأرض غائر مئات الأمتار، وان في مقدورهم قذفه إلى عنان السماء كمارد «شبّيك لبّيك» ينبثق من قمقمه ويُسيِّل في أنابيب للتسويق. وذلك ما كان عندما مُدِّد أول أنبوب تصدير إلى ميناء عبدان على شط العرب عام 1911، (ستقام عنده أثناء الحرب العالمية الثانية، أكبر مصفاة في العالم). ولتدخل إيران العصر الحديث الذي وجدت الأسرة الحاكمة نفسها أمامه مجبرة على استقدام خبراء يُيسِّرون لهم طلب الإيسار والاغتنام ويسهلون عليهم أمر ادارة شؤون البلاد والعباد بعدما تبدلت الحال والأحوال. فاستقدم الحكم خبراء من أهل العصر، مثل موظفي جمارك من بلجيكا ومحاسبين ماليين من أمريكا لوضع موازنة الدولة ومدربين عسكريين من بريطانيا. وهكذا تدفق النفط وتحالف البازار مع القصر اللذين تكالبا على ما تلقي به الشركات النفطية من فتات أرباح. وتحولت إيران (ذات صدفة جيولوجية) من بلد متروك لغبار التاريخ إلى أول دولة نفطية في الشرق الخرافي، وبالتالي أصبحت ذات ثقل استراتيجي كامن في باطن أرضها، بينما بقي عبادها فوق الأرض، عالقين في ربقة الفاقة والجهل والمرض. أما الاستعمار الغربي الذي أهمل أو أنه لم يحبذ ضم إيران إلى «ممتلكاته» في قرن الفحم والمحرك البخاري (القرن التاسع عشر)، لأسباب جيوبوليتيكية واقتصادية عديدة، (ربما أبرزها أنه لم يرد الاحتكاك بالروس عند حدودهم). ها هو يدخلها من نافذة الشركات النفطية البريطانية المتنفذة في بلاط الأسرة القاجارية ثم البهلوية، التي حظيت بحصة نصف مليون جنيه استرليني عند نهاية الحرب العالمية الأولى وارتفعت إلى ثلاثة ملايين ونصف المليون جنيه استرليني قبيل الحرب العالمية الثانية. بعد اخماد حرب الأغنياء في مركزها، في الشمال، نشبت حروب التحرر الوطني في أطراف الجنوب. وفي إيران، لم يكن ثمة استعمار مباشرا، وكان التحرر ماثلاً في فكرة تحرير الثروة النفطية من الاحتكار الأجنبي، وذلك كان مضمون حركة محمد مصدق الوطنية عام 1952 التي انتهت بإعدامه لأن نفوذ شركات النفط كان من نفوذ القصر، واذ انكمشت «بريطانيا العظمى» على جزرها التي تغرب عنها الشمس غالب السنة!، وتقدمت أمريكا لـ «ملء الفراغ» حسب مبدأ ايزنهاور.. وأعادت، بمشاركة بريطانيا، الشاه الفار محمد رضا بهلوي إلى السلطة واجهضت الحركة الثورية الوطنية.. وليمض الشاه في استهتاره بالمكوَّن الثقافي والاجتماعي للشعب الإيراني مبتدعاً تحديثاً شكلياً يدعي به جعل إيران «يابان الشرق الأوسط»، لكنه مثله مثل ابيه الشاه رضا الذي كان مستبداً استخف بمشاعر الناس الدينية لدرجة أنه اقتحم ضريح قم المقدس بحذائه العسكري وسوطه الاقطاعي ليسوط به آية الله بافكي لأن الأخير احتج على زوجة الشاه عندما نزعت حجابها (بحجة الدعوة إلى السفور) في ضريح فاطمة في قم المقدسة. وكان الابن على صورة الأب، ظن أنه ضمن ولاء الجيش له ووضع رجال البازار في جيبه وشكل مؤسسة علماء دين تفتي على هواه بعدما أقصى العلماء الرافضين في السجون والمنافي، ماضياً أبعد فأبعد في العمالة للأمريكيين وتقليد العلمانية الأتاتوركية الاستفزازية مثل منع الحج والاحتفالات باستشهاد الحسين مقابل تضخيم النزعة القومية الفارسية وتبديد أموال طائلة على احتفالات امبراطورية اسطورية.

كان الخميني، في منفاه، يحمل في ذاكرته مشهد الشاه بحذائه العسكري وسوطه وهو ينتهك «طهارة» فاطمة الزهراء!.

ثورة الكاسيت ويحضر هنا تحليل يرى ان الخميني كان مستعداً للتساهل مع الشاه وتمرير شرعيته في الحكم لو أن الشاه لم يمس «قم» في عصب قداستها وطهارتها ويتمادى في إعطاء المرأة حق التصويت. فيحتج الخميني علناً: «لقد بدأ ابن رضا بتدمير الإسلام في إيران وسأقاوم ذلك ما دام في عروقي دم»، فيرد الشاه بخطاب في عقر ضريح فاطمة متهجماً على رجال الدين الذين «كانوا على الدوام، جماعة من الرجعيين الأغبياء الذين تجمدت عقولهم منذ ألف سنة». وعقب ذلك نفي الخميني إلى تركيا، فذهب منها إلى العراق الذي طرده بعد مساومة مع إيران، فانتهى به الأمر في فرنسا. ومن هناك بث ثورته «ثورة الكاسيت» المهربة إلى داخل إيران التي كانت تغلي بتيارات سياسية معارضة ومتعارضة بين بعضها بعضا إلى حد الإلغاء. ولم يكن أحد من المراقبين والمحللين يقطع بأن الثورة ستُحصر تحت عمائم الآيات والحجات والملالي. كانت لحظة وصول الخميني إلى طهران «بمثابة اقتحام الباستيل، فقد كانت لحظة مكهربة ومليئة بالشحنات العاطفية. وضعت العالم والتاريخ أمام لحظة تغيير هامة، حيث لم يعد العالم كما كان في السابق». على حد تعبير كارين ارمسترونغ مؤلفة كتاب «معركة اللّه». كان الخميني مزيجاً من الصوفي المتمسك والفقيه الولي والإمام الغائب والقائد السياسي والمنظّر لمشروع مجتمع شمولي مطلق. كان الواقع يتحرك في ذهنه أكثر مما هو حراك على الأرض وتدافع في العصر. وهو عندما تسلم مقاليد توجيه الثورة وتأسيس مشروعها لم ينظر في مرجعية الواقع المحركة للاحداث وانما عمد إلى تطبيق فكرته الكليانية الواردة في كتابه «الحكومة الإسلامية» وخلاصته تتمثل في دمج رجل الدولة في رجل الدين، الإمام الغائب في القائد الروحي للثورة وتسليط الملالي على الدولة. فالحقيقة، صعد الخميني «ممتطياً» طائرة «إيرباص» من باريس إلى طهران، وقفل راجعاً ـ حسب محمد حسنين هيكل ـ إلى القرن الثامن عشر، ليتسلم دور ممثل الإمام الثاني عشر، بل انهم طقوسياً، رفعوه إلى منزلة الإمام الغائب وقد هبط الى الأرض ليملأها عدلاً بعد جور، وليتم احياء الروح الإسلامية الشيعية الثورية وتمثل رموزها كما نظّر لها فيلسوف الثورة علي شريعتي (1933 ـ 1977) الذي درس في السوربون ولندن وعكف على مشروع فقه ثوري نظري يعتمد على عملية احياء ديني لرموز تاريخ الرفض الشيعي مولداً من تراجيديا استشهاد الحسين انبعاثا «تموزيا» تمرديا ومسبغا على المعتقدات الثقافية والأساطير الدينية نظاماً مرجعياً يكسب مفهوم «المظلومية» مضموناً ثورياً. تركة الخميني.. عمامتان وفي عهد الخميني، وبرسم اجتثاث الجور وإقامة العدل، سُفكت دماء آلاف الناس. بالقطع، بينهم مجرمون سفاكو دماء من «السافاك» والجيش وبطانة الامبراطورية المستبدة. ولكن، ايضاً، كان بينهم الكثير من المعارضين السياسيين الذين أمر الخميني بقتلهم رغم اعتراض ساعده الأقوى والمرشح الأمثل لخلافته آية اللّه حسين منتظري. مات الخميني وترك تركته: ثورة إسلامية في مهب العصر يتجاذبها اتجاهان بعمامتين: عمامة «ولاية الفقيه» وعمامة «دولة الرئيس».

لقد كانت الثورة الايرانية، ولا شك، هي الثورة الأكبر في القرن العشرين بعد الثورة الروسية (الثورة الصينية تنويع على الأخيرة). وان كانت الثورتان على طرفي نقيض، ايديولوجياً: الأولى علموية ملحدة، والأخيرة غيبية مطلقة، إلا أنهما، رغم تنافرهما تنافر السالب والموجب، تتآخيان في منطق واحد وهو ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، إنهما وجهان لأصولية واحدة هي «أصولية الإقصاء»، اقصاء الآخر المختلف النسبي الهامشي الخ.. ولا يغير من الأمر شيئاً لون الايديولوجيا هنا أو العلامات الفارقة للخطاب الممارس أو صيغة مرجعه الأخلاقي والمثالي. فكلاهما يمتحان من روح الاستبداد الشمولي نفسه. أساليب الدولة البوليسية نفسها. أدوات وطرائق تصفية الخصوم هي نفسها، وعبارة الشخص الواحد هي نفسها، سواء كان إماماً أو رفيقاً. والغاية واحدة: إدامة أمن النظام الشمولي وصيرورته في الاتجاه الأوحد!. بمعنى: لم يكن الخميني إلاّ لينينياً بعمامة، بمعنى القائد المطلق للنظام المطلق.

صحيفةالشرق الأوسط : العدد 7940 - 24 اغسطس 2000